تقاسم مسؤولية البيت
* السيد محمد حسين فضل الله
كان علي وفاطمة (ع) يتحسسان مسؤولية البيت فاقتسماها، وفي أحاديثنا أن الزهراء تقاضت مع علي عند رسول الله (ص) ـ تقاضي المحبة ـ حتى يقسم العمل بينهما، فصار الاتفاق أن الزهراء تطحن وتعجن وتخبز وأن أمير المؤمنين يكنس البيت ويستقي الماء ويحتطب.
وفي ذلك درس للرجال والنساء معاً:
أما درس الرجال، فأن يتعلموا من علي أن لا يتكبروا على خدمة المنزل، فعلي كان يكنس ويستقي ويحتطب، والرجل منا لا يرضى لرجولته أن يكنس ويستقي، لكن علياً وهو سيد الرجال كان لا يرى بأساً في كنس البيت، لأن البيت بيته والزوجة زوجته، هي إنسان كما هو إنسان، والرجل مهما كان عظيماً ليس أكبر من أن يخدم أولاده وزوجته وأباه وأمه وأخوته ومَن هو مسؤول عنه.
والدرس نفسه ينبغي أن تتعلمه النساء، بأن لا يعتبرن أن العمل في البيت يمثل احتقاراً لهن، كما هي العقلية التي ولدت عند بعض النساء المسلمات مؤخراً، فالزهراء كانت تعمل وتطحن وتخبز، ونحن وإن قلنا مراراً إن الله لم يفرض على المرأة، ابنةً كانت أو زوجةً، أن تخدم في البيت، بيت أبيها أو زوجها، بالمعنى الشرعي للإلزام، ولكن الله أراد للإنسان عندما يعيش في أي موقع يتطلب المشاركة، أن يندفع طبيعياً بحسب طاقته، حتى يشارك في هذه الطاقة ويفجرها، والإنسان الذي يقف في موقع المسؤولية ويهمل ما أحبه الله له وإن لم يلزمه به، هو إنسان لا يعيش الإحساس بموقعه الإنساني تجاه الإنسان الآخر، فالله عندما لم يلزم المرأة بالعمل البيتي أو تربية الأطفال والإرضاع، لم يرد للمرأة أن تكون سلبية أمام ذلك، وإنما أراد لها أن تكون إنسانة العطاء لتقدم من قلبها ومن طاقتها ومن جهدها بوعيها واختيارها، أن تقدم ما لا يجب عليها عطاءً في سبيل الله (إنما نطعمكم لوجه الله) الإنسان: 9، بحيث تشتغل في بيتها وتخدم أولادها لوجه الله، كما تصوم وتصلي لوجه الله وتضحي لوجه الله.
إن بعض الناس يفكرون في حركة مسؤوليتهم في الحياة بالحسابات المادية، ونحن كمؤمنين ومؤمنات لابد أن نفكر بالحسابات الإلهية إلى جانب الحسابات الدنيوية، نحن عبيد الله ونريد أن يحبنا الله، والله يحبنا إذا فعلنا ما يرضيه، سواء كان ما يرضيه مما أوجبه علينا أو مما استحبه لنا، وإن مما استحبه للمرأة هو خدمة بيتها وزوجها، حتى أنه اعتبر ذلك جهاداً، ولذلك عندما قال النبي (ص): ((جهاد المرأة حسن التبعل))، فلأنه يعرف شدة المعاناة فيما تعيشه مع زوجها وفيما تصبر به على أذى زوجها، وما تتحمله من إحساساته التي قد تثقل إحساساتها، هذا إن لم تكن تعيش معه معاناة كبيرة، فإطلاق الجهاد على حسن التبعل لكون الجهاد يثقل المجاهدين حتى يأخذ منهم أرواحهم، وكذلك المرأة تعاني مع زوجها حتى تكاد تفقد روحها، فإذا صبرت صبر الواعي، وصبر الإنسانة التي تملك شرعاً أن تمتنع عن الخدمة، فإنها تعتبر من المجاهدات في سبيل الله، ويكون لها أجر المجاهدين.
باختصار، إن مسألة الخدمة ـ أن يخدم أحدنا الآخر في دائرة مسؤوليته ـ ليست مسألة تتصل بالكرامة لتعتبر المرأة أن العمل في البيت احتقار لشخصيتها أو يعتبر الرجل أن مشاركتها في العمل احتقار له أيضاً، وإنما هي مسألة تتصل بالإنسانية، وقيمة الإنسان في هذه الدنيا أن يخدم الإنسان ويخدمه الإنسان الآخر، وليس هناك إنسان خادم بالمطلق، وليس هناك إنسان سيد بالمطلق، كل إنسان منا سيد في دائرة وخادم في دائرة أخرى.
البيت بنظر الزهراء محضن لا سجن:
إن ما نستوحيه مما وصلنا من سيرة الزهراء (ع)، أنها لم تكن ترى البيت مشكلة لها أو سجناً، ولا الأمومة أو الزوجية عبئاً، كما ربما نلتقي الآن بنماذج نسائية في مجتمعنا ممن يشعرن ومن خلال العنوان الفضفاض للحرية، أن البيت أو الزوجية أو الأمومة تمثل عبئاً ثقيلاً، لا سيما إذا تحركت الظروف لتقسوا عليهن بكثير من الأعباء والمشاكل والآلام، فيشعرن بالعبء الثقيل على أكتافهن، وبالضغط الروحي الذي يجعلهن يعشن العقدة إن لم يستطعن أن يعشن التمرد، لكن الزهراء (ع) كانت ترى أن البيت لم يختره لها أحد، وأن الزوجية ليست عنصر ضغط عليها، وأن الأمومة ليست خياراً صعباً في حياتها، فهي اختارت أن تكون زوجة ترعى زوجها ويرعاها، وهي اختارت أن ترعى شؤون البيت وأن تكون أماً تربي أولادها. وليس اختيارها حالة ذاتية مختنقة أو رهناً للعادات والتقاليد، ولكنها رأت ـ اختيارياً ـ أن تلك هي مسألة الحياة، فالزوجية قانون وسنة وعملية تكامل وليست عملية مصادرة إنسان لإنسان، والأمومة هي سرّ امتداد الإنسانية في الحياة، وإذا كان البعض ينظر إلى البيت على أنه سجن، فإن نظرة الإسلام له أنه المحضن الذي يربي الأجيال ويصنع الرجال العظام والنساء العظيمات.
إن بعض الناس ينظرون إلى جانب من الصورة فيسيئون الحكم عليها، ولكننا إذا نظرنا إلى الصورة من جميع جوانبها فلن تكون سلبية وسيئة بشكل مطلق يوحي بالسقوط، ولا إيجابية بشكل مطلق يوحي باللاواقعية. ولهذا فقصه أن تكون المرأة زوجة كقصة أن يكون الرجل زوجاً، وقصة أن تكون المرأة أماً كقصة أن يكون الرجل أباً، وإذا كانت الأمومة تضغط على المرأة من خلال ما تتحمله من صعاب جسدية ونفسية، فإن الأبوة تضغط على الرجل لما تفرضه من مسؤوليات عن البيت الزوجي تضطره لى الهجرة والاغتراب سعياً وراء العمل وتأمين مستلزمات العائلة، وإذا كانت المعاناة بينهما تختلف في طبيعة الشكل، فإنها تتفق في طبيعة الجوهر فيما هو الضغط وفيما هي الآلام والمعاناة التي تصنع الحياة.